الصف الأول مثل الحب الأول ..يبقى حاضرا في الذاكرة الى الأبد بأبسط تفاصيله وأشهاها... المكان،الزمان، الخوف، التعاليم الأولى، الأخطاء غير المقصودة، الدموع المجانية، محاولات الهروب الفاشلة كلها قواسم مشتركة تجمع البدايتين...
شخصيا أرى أن الصف الأول الأساسي أهم من التوجيهي..لأنه النتيجة الأولى لتفاعل خبرات الطالب الفطرية بالخبرات المنهجية وحاصل جمع مفهومي اللعب والالتزام في ذهنية اعتادت طوال السنين الخمس الماضية على اللعب وحده..
بالنسبة لي، كان الصف الأول أصعب الصفوف على الإطلاق..في اليوم الأول أوقفونا في ساحة المدرسة على شكل طابور، وطلب منا معلم سمين وقتها أن يضع كل طالب رؤوس أصابعه على كتفي زميله الذي أمامه..الى أن وصل هذا التمدد الى الطالب الأول في الطابور، فبدأ هذا الزميل بالبكاء الشديد، لكونه الأول ولا يمكنه أن يضع رؤوس أصابعه على أكتاف أحد..ثم بدأ باقي الطابور بالبكاء على بكاء «الشب» دون معرفة السبب..مما دعا الأستاذ الى الصراخ وضرب العصا بالسياج كنوع من التخويف..
أثناء هذا الوقوف الطويل في مرحلة «التجنيد» الأولى، كان الأمر يتطلب مني أن أنزل يدي عن زميلي الذي أمامي كل دقيقة لأرفع بنطلوني الواسع «بنمرتين»، ثم أمدهما من جديد، ثم أنزلهما بعد دقيقة لأتفقد «الشلن» في الجيبة اليمنى ثم أمدهما، ثم أنزلهما من جديد لأرفع البنطلون..الى انتبه إلي الأستاذ فاقترب مني ونقر رأسي بقبضته قائلا: « إهدا لا أحت اسنانك..المفاجأة بالموضوع أني اكتشفت لاحقا أن الذي كان يلعب دور الأستاذ وقتها ما هو الا آذن المدرسة وليس مربي الصف.
وعند دخولنا الصف، واختيار الطلاب القصار بالمقاعد الأولى والطوال بالمقاعد الخلفية، و تصنيف الطلاب على «الخشوم» صاحب الأنف الكبير يجلس مع صاحب الأنف الكبير،وصاحب الشامات الكثيرة مع صاحب الشامات الكثيرة لكي يرتاح المعلم من التنابز بالألقاب..وبعد أن استقر وجه الصف تقريبا، ورضيت بشريكي في المقعد، تلقيت أول صدمة ثقافية بتاريخ حياتي، فالمناهج الدراسية تخاطب الأم بلفظ «ماما» وليس «يمه»، و«ماما الكتب» مكشوفة الرأس وتلبس «ع القصير» بينما أمي وجميع أمهات الطلاب في الصف يرتدين «الثوب الأسود الطويل والشنبر ويغطين رؤوسهن بالعصبة السوداء أو الإشاربات الملونة أو الشماغات أو البشاكير».. فسألنا المعلم عن سبب غياب صور أمهاتنا في الكتب؟ فتهرب من الإجابة مستهزئا : « ان شاء الله بحطوهن الطبعة الجاية«..
ومن ذكريات الصف الأول أيضا، أنه كان يشاع أن البراية الخضرة «قطاعة» بينما البراية ذات اللون الأزرق» شفاطة» أي حادة وتحسم القلم جيدا دون أن «تفعطه».. وأن «المحاية» الحمراء «بتشحبر» بينما البيضاء تترك الدفتر نظيفا دون أثر..وكنا نصدق ذلك بالطبع ..
المهم، في هذا الصف تحديدا تعلمت ابجديات راسخة استفدت منها طوال حياتي ؛ تعلمت أن لا أضع يدي على أكتاف أحد والا أصعد على أكتاف أحد وأن لا أعتبر كل رجل سمين أستاذا في الحياة فقد يكون آذنا،وأن الأم ليست درسا في كتاب، ولكنها كتاب بأكمله، وأن لا أستخدم أثناء الكتابة الا (البراية الزرقاء الشفاطة)، والمحاية «البيضاء» النظيفة ليبقى قلمي حاضرا و صفحتي بيضاء الى الأبد..
