Monday, February 4, 2008

ذكريات مدرسية


الصف الأول مثل الحب الأول ..يبقى حاضرا في الذاكرة الى الأبد بأبسط تفاصيله وأشهاها... المكان،الزمان، الخوف، التعاليم الأولى، الأخطاء غير المقصودة، الدموع المجانية، محاولات الهروب الفاشلة كلها قواسم مشتركة تجمع البدايتين...

شخصيا أرى أن الصف الأول الأساسي أهم من التوجيهي..لأنه النتيجة الأولى لتفاعل خبرات الطالب الفطرية بالخبرات المنهجية وحاصل جمع مفهومي اللعب والالتزام في ذهنية اعتادت طوال السنين الخمس الماضية على اللعب وحده..

بالنسبة لي، كان الصف الأول أصعب الصفوف على الإطلاق..في اليوم الأول أوقفونا في ساحة المدرسة على شكل طابور، وطلب منا معلم سمين وقتها أن يضع كل طالب رؤوس أصابعه على كتفي زميله الذي أمامه..الى أن وصل هذا التمدد الى الطالب الأول في الطابور، فبدأ هذا الزميل بالبكاء الشديد، لكونه الأول ولا يمكنه أن يضع رؤوس أصابعه على أكتاف أحد..ثم بدأ باقي الطابور بالبكاء على بكاء «الشب» دون معرفة السبب..مما دعا الأستاذ الى الصراخ وضرب العصا بالسياج كنوع من التخويف..

أثناء هذا الوقوف الطويل في مرحلة «التجنيد» الأولى، كان الأمر يتطلب مني أن أنزل يدي عن زميلي الذي أمامي كل دقيقة لأرفع بنطلوني الواسع «بنمرتين»، ثم أمدهما من جديد، ثم أنزلهما بعد دقيقة لأتفقد «الشلن» في الجيبة اليمنى ثم أمدهما، ثم أنزلهما من جديد لأرفع البنطلون..الى انتبه إلي الأستاذ فاقترب مني ونقر رأسي بقبضته قائلا: « إهدا لا أحت اسنانك..المفاجأة بالموضوع أني اكتشفت لاحقا أن الذي كان يلعب دور الأستاذ وقتها ما هو الا آذن المدرسة وليس مربي الصف.

وعند دخولنا الصف، واختيار الطلاب القصار بالمقاعد الأولى والطوال بالمقاعد الخلفية، و تصنيف الطلاب على «الخشوم» صاحب الأنف الكبير يجلس مع صاحب الأنف الكبير،وصاحب الشامات الكثيرة مع صاحب الشامات الكثيرة لكي يرتاح المعلم من التنابز بالألقاب..وبعد أن استقر وجه الصف تقريبا، ورضيت بشريكي في المقعد، تلقيت أول صدمة ثقافية بتاريخ حياتي، فالمناهج الدراسية تخاطب الأم بلفظ «ماما» وليس «يمه»، و«ماما الكتب» مكشوفة الرأس وتلبس «ع القصير» بينما أمي وجميع أمهات الطلاب في الصف يرتدين «الثوب الأسود الطويل والشنبر ويغطين رؤوسهن بالعصبة السوداء أو الإشاربات الملونة أو الشماغات أو البشاكير».. فسألنا المعلم عن سبب غياب صور أمهاتنا في الكتب؟ فتهرب من الإجابة مستهزئا : « ان شاء الله بحطوهن الطبعة الجاية«..


ومن ذكريات الصف الأول أيضا، أنه كان يشاع أن البراية الخضرة «قطاعة» بينما البراية ذات اللون الأزرق» شفاطة» أي حادة وتحسم القلم جيدا دون أن «تفعطه».. وأن «المحاية» الحمراء «بتشحبر» بينما البيضاء تترك الدفتر نظيفا دون أثر..وكنا نصدق ذلك بالطبع ..


المهم، في هذا الصف تحديدا تعلمت ابجديات راسخة استفدت منها طوال حياتي ؛ تعلمت أن لا أضع يدي على أكتاف أحد والا أصعد على أكتاف أحد وأن لا أعتبر كل رجل سمين أستاذا في الحياة فقد يكون آذنا،وأن الأم ليست درسا في كتاب، ولكنها كتاب بأكمله، وأن لا أستخدم أثناء الكتابة الا (البراية الزرقاء الشفاطة)، والمحاية «البيضاء» النظيفة ليبقى قلمي حاضرا و صفحتي بيضاء الى الأبد..

ابن العجوز


ايام الطفولة، كنا اذا ما اقدمنا على فعل شائن امام الملأ، واذا ما مارسنا سلوكا ضد العرف وضد التقاليد على الاقل - من وجهة نظر الاهل - كنا نشبه بسولافة «ابن العجوز» سيىء الصيت.

في تلك الايام لم نكن نكترث بتفاصيل الحكاية، المهم انها تشبيه سيىء للظهور السلبي، وخيبة امل، ووصفة اجتماعية قاسية تصرف للمستفيد الاول.. لكن عندما كبرنا صرنا نسأل عما قام به بطل الحكاية لنعرف سر هذا التشبيه المولود معنا والملتف على تصرفاتنا مثل الحبل السري..

تتلخص حكاية «ابن العجوز» حسب الرواية الشعبية. ان هناك عجوزا قد افنت عمرها بتربية ولدها الوحيد، تخاف عليه، تعلق التمائم والخرزات الزرقاء على صدره، تخصه بالبيض البلدي، وبقوانص الدجاج، و«قرص العجة» و«حلو النعنع».. بشكل يومي، كيفما يقوم «اسم الله عليك» كيفما ينام «اسم الله عليك» كيفما يتثاءب «اسم الله عليك»، المهم تربى الولد على الدلال والكسل وانخفاض الهمة، صار شابا.. لكنه بقي خامل الصيت، لا احد يعرف عنه شيئا، لم ينقل عنه موقف، ولم يذكره اي من اهل القرية «لا بمليح ولا بقبيح».. ذات مساء، قالت الام لابنها: يمه لا تظلك هيك «خمعه» بدي ارفع راسي فيك، بدي كل الناس تسولف عنك؟ رفع الولد سرواله الى ما فوق السرة وقال: ابشري يمه..

في الصباح الباكر توجه الى عين الماء وأمام كل نساء القرية «بال» قرب العين ورفع سرواله من جديد ورجع الى امه العجوز، مناديا من البوابة: ارفعي رأسك.. «عملتها يمه، عملتها».. زغردت العجوز بلسانها البالي حتى كاد يسقط طقم اسنانها مرددة: عفية الشاطر، عفية النشمي.. بينما انتشر الخبر بالقرية وبالقرى المجاورة ان ابن العجوز «بال» بالعين. وهكذا اصبح الفتى خامل الصيت ذائع الصيت الى يومنا هذا دون ان يهتم لأي نوع من انواع الشهرة قد اخذته فعلته.

بين الفترة والاخرى، يتقمص احد الاشخاص دور ابن العجوز، واحيانا تلعبه بعض التنظيمات، حتى غدت سياسة واسلوبا سهلا لجني الشهرة العالية


أبيض وأسود


كان تلفزيون الابيض والاسود ذو القوائم الخشبية النحيفة يحتاج الى نصف ساعة لتشغيله وربع ساعة لاطفائه حتى تسخن «اللمبات» يبدأ التشغيل بنقطة ضوء بحجم رأس القلم ثم تكبر، ثم يخرج خط عمودي يتبعه خط افقي بعد ذلك بثوان تقلب الصورة عشرون مرة ثم تستقر على اشبه وجوه وبعدها تزداد وضوحا شيئا فشيئا.. كان بالغالب يفتح قبل اخبار الثامنة بنصف ساعة ويغلق بعدها مباشرة، ومجاله الوحيد بين قناتي الشام وعمان ونادرا قنال «ستة» اما هذه القنال الاخير لم يكن محببا لوجود مشاهد قد تمس احد بنود مرسوم الحشمة العائلي المطبق سنة 1950 ميلادي. حتى في القناتين المذكورتين وفور ظهور مشاهد رقص ولو كان محتشما او بروز ممثلة ترتدي لباسا قصيرا.. كانت تتولى لجان النهي عن المنكر في البيت النداءات المتتالية.. غير.. غير.. غير «قيم عنه» «اقلعهم غاد»..الخ.

كما كان لمسألة «رفع» صوت التلفزيون وتخفيضه قصة عويصة تحتاج الى جاهة محترمة يتدخل بها كبير العائلة واحيانا الى قضوة عشائرية.. فعندما يطلب كبير «القعدة» رفع الصوت ليسمع ما يقول ابراهيم شاه زادة مثلا بعد ان يعدل جلسته ويحني ظهره مقتربا من الشاشة، متزامنا مع طلب اعتيادي يتكرر الف مرة في السهرة «قوم انهض له يا فلان شوي» كان يحتج فلان «والله هسع رفعت له.. خلي فلان».. فيطلب من الثاني ان يهجر «لحافه» ويرفع للصوت فيرد الثاني «انا.. غيرت على الشام قبل الاخبار، هسع دور علان» فيرتفع الجدال، ويطير كأس «المنيوم» فارغ من كبير القعدة الى اشدهم «دقارة» بعد ان يرفع الصوت بنفسه.

هناك مشاكل اخرى كانت تواجهنا مع تلفزيونات الابيض والاسود: منها اذا تغيرت درجة اللون الرمادي او الاسود او باتت الصورة اعتم او اكثر اضاءة من التلفزيون او من البث نفسه كنا نتهم ونحول للتحقيق فرع (مين لعب فيه ولكوا)؟ كون الجهاز من المحرمات المساس به لدقة اسلاكه وحساسية عياراته

اما (حمة البال) الكبرى.. عندما ينقل التلفزيون الاردني مباراة لكرة القدم من الدوري الممتاز او من بطولة عربية في ظروف جوية ماطرة.. كان يتعكر البث وتختلط الخطوط وتقلب الصورة من فوق الى تحت بشكل سريع كلما ارتفع صوت محمد جميل عبدالقادر معلقا على هجمة اكاد اجزم بأني لم استمتع بمشاهدة مباراة كاملة، طوال اقتنائنا ذاك التلفزيون.

لكن المفارقة الاهم في قصتي مع الابيض والاسود.. اني كنت اعتقد جازما باني «حريف» في تضبيط الشبكة بعد لفها يمينا وشمالا بدرجات بسيطة.. بناء على توجيهات احد الاخوان قرب التلفزيون متفاخرا باني الوحيد القادر على جعل الصورة «طبع» من اول لفة.. لاكتشف لاحقا وبعد سنين طويلة ان سلك الهوائي لم يكن موصولا بمؤخرة التلفزيون بل كان مستخدما كحبل غسيل.. وان السلك الموصول بالجهاز لا صلة له بالشبكة

Abu Mahjoob USA